تراجع و ركود الديمقراطية- الأسباب و سبل الإنعاش في العالم

المؤلف: جلال الورغي09.26.2025
تراجع و ركود الديمقراطية- الأسباب و سبل الإنعاش في العالم

يتزايد القلق بشكل ملحوظ حيال الانحدار الواضح في "الديمقراطية"، سواء كمفهوم أو كممارسة، لدرجة أن البعض يصف هذه الحقبة الزمنية بأنها عصر "الركود الديمقراطي"، مُستلهمين فكرة الركود الاقتصادي.

على الرغم من أن عام 2024 شهد إجراء 77 انتخابات في أنحاء العالم، فإن المخاوف حيال تراجع زخم الديمقراطيات وانكماش جاذبية الفكرة الديمقراطية تتفاقم بشكل جلي ومتزايد.

رأت العديد من الدراسات السياسية أن القرن العشرين كان، على مستوى أنظمة الحكم، عصر الازدهار الديمقراطي. وانتشر النظام الديمقراطي من عدد قليل من الدول التي تبنته في بداية القرن العشرين، إلى أكثر من 120 دولة بحلول نهايته وبداية القرن الحادي والعشرين. ففي عام 2006، أفادت تقارير ترصد الحالة الديمقراطية بأن أكثر من 120 دولة حول العالم قد تبنت النظام الديمقراطي بشكل أو بآخر.

وبالرغم من الأحداث الجسام التي شهدها القرن العشرون، كالحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور النازية والفاشية، إضافة إلى الحركات الاستعمارية، يمكن القول إن مسيرة الديمقراطية في القرن العشرين كانت قصة نجاح عظيمة، منحت الشعوب بصيص أمل في التطلع إلى إقامة نظام حكم يعبر بشكل أو بآخر عن إرادتهم. وكان لنجاح مسيرة العديد من الديمقراطيات في تحقيق الازدهار والتنمية والرخاء والتداول السلمي للسلطة، بمثابة إلهام للشعوب من أجل ابتكار مستقبل أفضل.

لكن المثير للانتباه هو أن مسار تبني النظام الديمقراطي والإقبال عليه على مستوى العالم بدأ في السنوات الأخيرة في التراجع والانحسار بشكل ملحوظ، حتى وصلنا إلى ما يُعرف اليوم بالركود الديمقراطي.

ولتفسير أسباب وسياقات هذا "الركود الديمقراطي" واقتراح سبل لتحفيز ديناميكية الإنعاش والتغلب عليه، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

  • أولًا: من الضروري الإشارة إلى أن مسيرة الديمقراطيات الناجحة على مر العقود، وما راكمته من قوة دافعة سياسية، جعلتها تتسع وتتحول إلى النمط الأكثر جاذبية للحكم على الصعيد السياسي، إلا أنها لم تحظَ بالقدر نفسه من التأييد على المستويين الفكري والثقافي. فبالتوازي مع الانتشار الواسع والتألق السياسي لفكرة الديمقراطية كنظام حكم، استمر التشكيك على المستويين الثقافي والفكري في مدى أفضلية وفاعلية الديمقراطية. اتخذ هذا التشكيك بعدًا أيديولوجيًا، تعمق على مدى عقود في ظل الصراع الدولي بين الأنظمة الرأسمالية والنظام الشيوعي الاشتراكي، كما اتخذ في الفضاء العربي الإسلامي بعدًا دينيًا يتعلق بمدى شرعية الديمقراطية. واعتبرت بعض الأوساط الديمقراطية بمثابة خطوة متقدمة في التبعية للقوى الغربية الرأسمالية والليبرالية.
  • ثانيًا: العملية الديمقراطية كمسار سياسي يُجسد ذاته من خلال مؤسسات حكم يديرها أفراد، تعتريها مع مرور الوقت حالة من الوهن والتراخي، بل والانحراف، وهي سمات مرتبطة بطبيعة العمل البشري. وهذا يعني أن العملية الديمقراطية، بقدر ما تحمل في طياتها بذور قوتها (التصحيح الذاتي المستمر)، تحمل أيضًا بذور ضعفها (إذ يمكن أن تنحرف وتتآكل وتتقادم). وعندما تفشل الديمقراطيات في تصحيح مسارها، وتعديل اتجاهها، وترشيد ممارساتها، وتجديد آفاقها وفلسفتها، فإنها تتحول من نظام تمثيلي رشيق إلى نظام تسلطي مُتهالك. فالديمقراطية تستلزم المتابعة المستمرة، من خلال المراجعة والتقييم والتجديد والتصحيح لمسارها، وإعادة تأهيلها بما يتماشى مع تطورات الواقع، دون الحياد عن جوهرها الأساسي، وهو النظام التمثيلي التعددي الذي يكفل التداول السلمي للسلطة، والحقوق والحريات للجميع، والعدالة الاجتماعية.
  • ثالثًا: مما يضاعف القلق حيال ظاهرة الركود الديمقراطي هو أنها لا تقتصر على الدول الحديثة العهد بالديمقراطية، وإنما تمتد لتشمل الدول ذات التجارب الراسخة والتاريخ الديمقراطي الطويل، مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا. فإذا كان مفهومًا إلى حد ما أن تواجه الدول حديثة العهد بالديمقراطية صعوبات، بل وانتكاسات في المسار الديمقراطي، نظرًا لكونها لم تترسخ وتستوِ بعد، فإن تراجع الديمقراطية وركودها في الدول ذات التاريخ الديمقراطي العريق يثير القلق والتساؤل، ويستدعي التوقف لإجراء مراجعة شاملة. فتراجع الديمقراطيات العريقة وركودها ينعكس سلبًا على الديمقراطيات الناشئة، ويضعفها ويفقدها زخمها. فالديمقراطيات تتأثر ببعضها البعض، وتتبادل الدعم وتعزز بعضها البعض. وتمثل الديمقراطيات العريقة، بما لديها من خبرات، خارطة طريق ونموذجًا للديمقراطيات الناشئة. لذلك، يمثل ركود الديمقراطيات العريقة ناقوس خطر داخلي وخارجي. ويمكن القول إن أحد الأسباب الرئيسية للركود الديمقراطي هو المستقبل القلق والغامض للديمقراطيات العريقة، وما تفرزه من تحديات وتبعات.
  • رابعًا: مع تزايد وتعقيد التحديات الراهنة في العالم، تظهر مؤشرات واضحة على تراجع قدرة الديمقراطيات العريقة على توقع المشكلات والأزمات الطارئة في هذه الدول، علاوة على عدم قدرتها على التعامل المتوازن مع هذه التحديات، بل تظهر حالة من الارتباك والعجز الواضح في حل هذه القضايا المستجدة. وتتعمق أزمة الديمقراطية عندما تبدو هذه الأنظمة الديمقراطية ليست أفضل من الأنظمة غير الديمقراطية من حيث القدرة على توقع الأزمات والصعوبات. تكشف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية في العالم، وما يصاحبها من تحديات كبرى، أن الدول ذات التاريخ الديمقراطي العريق ليست بمنأى عن الأزمات العاصفة، وأن ما يطرأ من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا يقتصر على الدول غير الديمقراطية، بل قد تكون هذه الأزمات في الديمقراطيات العريقة أكثر حدة وأشد وطأة في بعض الأحيان. هذه الصعوبات التي تواجه الديمقراطيات العريقة تفقد فكرة الديمقراطية الكثير من جاذبيتها وتألقها، وتجعلها تفقد مكانتها كنموذج يحتذى به، مما ينذر بإمكانية فقدان هذه الفكرة بريقها وتأثيرها في نفوس الطامحين إلى حكم ديمقراطي رشيد، أثبتت التجارب أنه أقل أنظمة الحكم شرورًا وأكثرها فاعلية وعدالة.
  • خامسًا: كشفت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تعصف بالعالم، والتي تعمقت بشكل كبير خلال جائحة كورونا، عن هشاشة الهيكل الأساسي للأنظمة السياسية بمختلف توجهاتها. بل ربما بدت الدول ذات الديمقراطيات العريقة أكثر هشاشة وأقل قدرة على التكيف مع التحديات التي أفرزتها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. ففي حين بدت دول مثل الصين وروسيا متحكمتين بزمام الأمور في مواجهة الأزمة، واتخاذ إجراءات فعالة للحد من تداعياتها، أظهرت دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا ارتباكًا ووهنًا واضحين في مواجهة الأزمة. أوجد هذا الوضع انطباعًا خطيرًا بأن الديمقراطيات العريقة ليست بالضرورة مؤهلة للتكيف مع الأزمات الطارئة واحتوائها بالفاعلية المطلوبة. كما ظهر لقطاعات واسعة من المجتمعات الغربية الديمقراطية أن نظامها الديمقراطي لا يقدم بالضرورة حلولًا للتحديات الطارئة التي تواجه البلاد والمجتمع، بل إن انفتاحها كنظام ديمقراطي قد يكون سببًا في هذا الضعف والفشل الاقتصادي والاجتماعي والتعامل مع الأزمات. قد يفسر هذا ظهورًا مفاجئًا ولكن متزايدًا لخطابات شعبوية تحتقر القيم الديمقراطية وتتبنى خطابات متطرفة ضد المهاجرين والانفتاح والقيم الكونية.
  • سادسًا: لعبت مسألة "التدخلات الخارجية" دورًا سلبيًا في تراجع الزخم الديمقراطي في العالم، وخاصة في المناطق التي كانت تناضل من أجل التغيير الديمقراطي وتبني نظام سياسي يقوم على التعددية وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة. وتبدو المنطقة العربية من بين أكثر المناطق التي عانت من تدخلات أجنبية كان الكثير منها في ظاهره دعمًا للإصلاح السياسي والديمقراطية، بينما كانت حقيقته دعمًا للدكتاتوريات كأنظمة تسلطية قادرة على التحكم وحفظ "الاستقرار"، الذي تعتبره القوى الخارجية أولوية قصوى، ولا تخفي تفضيله على التغيير والانتقال الديمقراطي. وقد لعب هذا التدخل الأجنبي دورًا واضحًا في دعم المعادلات السياسية في دول المنطقة، وخلق هذا الدور الأجنبي المنحاز للأنظمة القائمة شعورًا بخيبة الأمل والإحباط واليأس من التغيير. وقد ظهر الدور الأجنبي السلبي جليًا في دعم أنظمة تسلطية دموية والتعامل معها دون تحفظ، بل وإبداء استعداد واضح لحمايتها في وجه ما يتهددها من مخاطر. كان الربيع العربي شاهدًا واضحًا على عدم حماسة القوى الخارجية لدعم الحراك الشعبي في المنطقة العربية من أجل التغيير والديمقراطية. وما عقد هذه التدخلات الأجنبية لإجهاض الانتقال الديمقراطي هو أنها جاءت من قوى دولية مختلفة، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول غربية وروسيا والصين. وما يفاقم من حجم تأثير التدخل الأجنبي هو ما توفره التطورات التكنولوجية وثورة الاتصالات من إمكانات تسهل عملية التدخل الأجنبي، وتجعل التصدي له مهمة بالغة الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة. يتجلى التدخل الخارجي لإرباك وتقويض الديمقراطية بشكل واضح اليوم من خلال التدخل والتأثير في أي استحقاق انتخابي. ويتم استغلال أدوات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تمثل أدوات فعالة في إعادة تشكيل الوعي وتوجيه الرأي العام والتأثير في اختياراته في كل عملية انتخابية. وإذا كانت دول عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وبريطانيا تواجه خطر التدخل في انتخاباتها والتأثير فيها، وخاصة من قبل روسيا، فإن ذلك يعني حتمًا أن التدخل والتأثير في انتخابات أي بلد آخر أمر ممكن. ويضرب هذا التدخل الخفي في الاستحقاقات الانتخابية مصداقية هذه الانتخابات، ويجعلها غير معبرة عن إرادة الناخبين واختياراتهم، بقدر ما هي معبرة عن قوى خفية نافذة يراد تمكينها من الحكم في هذا البلد أو ذاك. ويفقد هذا التدخل ثقة الرأي العام في العملية الديمقراطية، إذ لن يراها معبرة عن إرادته، مما يدفعه إلى العزوف عن المشاركة في أي استحقاق انتخابي يعتبر نتائجه محسومة سلفًا.
  • سابعًا: تمثل ظاهرة الشعبوية المتصاعدة اليوم تهديدًا مباشرًا لفكرة الديمقراطية. ويتعاظم خطر الشعبوية في ظل صعود العديد من الأحزاب الشعبوية في العالم، لتطال هذه الظاهرة الخطيرة دولًا كبرى تعتبر معاقل للديمقراطية، مثل الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية. وبينما تستغل التيارات الشعبوية النظام الديمقراطي للتعبير عن نفسها من خلاله، في استثارة المشاعر القومية والوطنية ومهاجمة المهاجرين والانفتاح والتسامح والتعددية الثقافية، فإنها لا تتردد في التقليل من شأن الديمقراطية والتشكيك في فاعليتها. وكلما انتشرت الشعبوية واجتاحت المشهد السياسي، ازداد خطر تحول الديمقراطية من آلية للتداول السلمي للسلطة وإدارة التعدد إلى آلية لإضعاف المؤسسات الديمقراطية وتقويض القيم والمبادئ التي تقوم عليها. وتمثل التجربة الأمريكية اليوم مع فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، واكتساح الخطاب الشعبوي للمشهد الأمريكي، بالإضافة إلى دول غربية أخرى كثيرة، مؤشرًا خطيرًا على ما آلت إليه الديمقراطية الأمريكية، التي كانت لعقود طويلة النموذج الجذاب، فإذا بها تتحول إلى تجربة مقلقة ومثيرة للريبة وغير واضحة المعالم.
  • ثامنًا: بدلًا من أن تكون الأيديولوجيات في المنطقة العربية دعائم فكرية وثقافية وروحية ورأس مال رمزي للديمقراطية، فإنها على عكس المتوقع تمثل عائقًا أمام فكرة الديمقراطية، بل وتعطلها. فقد تحول الصراع الأيديولوجي بين التيارات السياسية إلى إدامة حالة من الانقسام والتجاذب، حرمت بلدانًا عربية كثيرة من فرص توحيد الجهود من أجل التغيير الديمقراطي وإنجاح المسار الديمقراطي. وبدت الديمقراطية وكأنها مختطفة من قبل التيارات السياسية التي ربطت مصير الديمقراطية بالأفق الأيديولوجي لهذه التيارات. وقد لعب الانقسام الأيديولوجي دورًا رئيسيًا في شل التجربة الديمقراطية وإجهاض مسارها. وقدمت قوى سياسية عربية عدوها الدكتاتوري على خصمها الأيديولوجي، فضحت بالديمقراطية لحساب ردة سياسية أعادت العديد من بلدان المنطقة إلى نادي الدكتاتوريات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة